سوريا- العدالة الانتقالية رؤية لإرساء أسس العدالة والسلام الأهلي

المؤلف: فضل عبد الغني09.03.2025
سوريا- العدالة الانتقالية رؤية لإرساء أسس العدالة والسلام الأهلي

في يوم الأحد الموافق 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، طَوَت صفحة من تاريخ سوريا، حيث أُعلن عن انتهاء حكم نظام بشار الأسد، وتولّت إدارة العمليات العسكرية زمام الأمور، تبع ذلك تشكيل حكومة مؤقتة لتسيير الأعمال.

يأتي هذا التغيير الجذري بعد مرور أربعة عشر عامًا على الصراع المسلح الدامي الذي انطلق شرارته مع بدايات الحراك الشعبي السلمي في شهر آذار/مارس من عام 2011، عندما خرج السوريون إلى الشوارع مطالبين بالحرية والكرامة الإنسانية وتأسيس دولة ديمقراطية عصرية ترتكز على انتخابات حرة ونزيهة تعبر عن إرادة الشعب.

مع إسدال الستار على حقبة امتدت لأكثر من نصف قرن من حكم عائلة الأسد، تقف سوريا اليوم أمام تحديات جمة تتطلب إرساء دعائم جديدة للعدالة والسلام المجتمعي. وفي هذا السياق، تبرز أهمية العدالة الانتقالية كمسار أساسي للانتقال بسوريا من مرحلة الصراع والدمار إلى مرحلة التعافي والاستقرار وبناء الدولة المنشودة.

لقد اضطلعت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بدور جوهري في توثيق الانتهاكات التي ارتُكبت في سوريا بشكل يومي منذ عام 2011. وعملت بلا كلل على بناء قاعدة بيانات شاملة تضم ملايين الوقائع والحوادث، وأصدرت ما يزيد على 1800 تقرير وبيان، شملت تقارير دورية يومية وشهرية غطت سنوات النزاع بكل تفاصيلها. وشكلت هذه التوثيقات الدقيقة أساسًا راسخًا يمكن الاعتماد عليه في أي مسار للعدالة الانتقالية في سوريا، فهي بمثابة سجل تاريخي لا يمكن تجاهله.

وفقًا لتوثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن النزاع السوري قد خلف وراءه فظائع مروعة وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، تشمل:

  • مقتل ما لا يقل عن 234 ألف مدني بريء، من بينهم 202 ألف شخص قُتلوا على يد قوات نظام الأسد الغاشم.
  • توثيق 181 ألف حالة اعتقال تعسفي وإخفاء قسري، من بينهم 160 ألف مختفٍ قسريًا على يد النظام، وبينهم كذلك 3.736 طفلًا و8.014 سيدة.
  • وفاة مأساوية لما لا يقل عن 45.336 شخصًا تحت وطأة التعذيب الوحشي، من بينهم 45.031 شخصًا قضوا نحبهم على يد قوات النظام.
  • استخدام أسلحة فتاكة ومدمرة على نطاق واسع، بما في ذلك إلقاء 81.916 برميلًا متفجرًا عشوائيًا، وتنفيذ 217 هجومًا بأسلحة كيميائية محرمة دوليًا، و252 هجومًا بذخائر عنقودية، و51 هجومًا بأسلحة حارقة.
  • نزوح وتشريد قسري لنحو 13.8 مليون سوري، من بينهم 6.8 ملايين نازح داخل الأراضي السورية وقرابة 7 ملايين لاجئ اضطرتهم الظروف القاهرة إلى مغادرة البلاد والبحث عن ملاذ آمن في دول الجوار وغيرها من دول العالم.

هذه الإحصاءات الموجعة تعكس بجلاء حجم المأساة السورية وتبرز الحاجة الماسة إلى تبنّي مسار شامل وعادل للعدالة الانتقالية يعالج هذا الإرث الثقيل من الانتهاكات الممنهجة، ويضمن عدم تكرارها مستقبلًا، ويمهد الطريق نحو بناء سوريا جديدة تنعم بالعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية للجميع.

وهذا تحديدًا ما تسعى رؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان للعدالة الانتقالية في سوريا إلى تقديمه. تتميز هذه الرؤية، التي صدرت قبل أيام قليلة، بكونها نهجًا متكاملًا يسعى إلى معالجة جذور المشكلات العميقة التي عانت منها سوريا على مدى عقود طويلة، وتحقيق تحوّل جوهري في بنية الدولة السورية ومؤسساتها المختلفة.

تقترح الشبكة في رؤيتها الطموحة إنشاء هيئة وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية تشكل المحور الأساسي لتنفيذ برامج العدالة الانتقالية، ويجب أن تتسم هذه الهيئة بالاستقلالية والشمولية والشفافية المطلقة لضمان تحقيق أهدافها المنشودة.

كما تؤكد الرؤية على ضرورة تطبيق الأركان الأربعة للعدالة الانتقالية بشكل متزامن ومتكامل، بحيث تتضافر جهود المحاسبة الجنائية مع مساعي كشف الحقيقة كاملة وبرامج جبر الضرر وإصلاح المؤسسات الحكومية والقضائية.

وتولي الرؤية اهتمامًا خاصًا بالمشاركة المجتمعية الواسعة في مسار العدالة الانتقالية، مع التركيز بشكل خاص على دور الضحايا ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة، وأهمية التعاون الدولي كداعم أساسي للعملية برمتها، مع الحفاظ على الملكية الوطنية للمسار بأكمله.

في هذا المقال، نسعى جاهدين لرصد عدد من هذه الجوانب الهامة التي تناولتها الرؤية، على أن نستكمل باقي التفاصيل في مقال لاحق.

1- الإطار المفاهيمي للعدالة الانتقالية

العدالة الانتقالية في الحالة السورية تعني مجموعة من الآليات القانونية وغير القانونية التي تهدف إلى معالجة الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان التي حدثت أثناء فترة النزاع المسلح، وخاصة تلك التي ارتكبها نظام الأسد، وذلك من أجل تحقيق العدالة المنشودة للضحايا، ومحاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم، وتعزيز المسار نحو سلام دائم ومستقر يستند إلى سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.

وترتكز العدالة الانتقالية في سوريا على أربعة أركان أساسية متكاملة ومتلازمة: أولها؛ المحاسبة الجنائية العادلة، التي تشكل حجر الزاوية في تكريس مبدأ سيادة القانون وتقويض سياسة الإفلات من العقاب التي كانت سائدة في الماضي، مع التركيز بشكل خاص على محاسبة القيادات العليا المتورطة في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

ثانيها؛ كشف الحقيقة والمصالحة المجتمعية، التي تهدف إلى توثيق الانتهاكات بشكل كامل وشفاف، وتحديد مصير المفقودين والمختفين قسريًا (الذين يتجاوز عددهم 160 ألف شخص)، وتعزيز المصالحة المجتمعية الشاملة.

ثالثها؛ جبر الضرر والتعويض العادل، الذي يشمل التعويض المادي والمعنوي للضحايا وذويهم، وبرامج جبر الضرر المعنوي وتخليد ذكرى الضحايا.

رابعها؛ إصلاح المؤسسات الحكومية، خاصة القضائية والأمنية والعسكرية، لضمان عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة واستعادة ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة.

تُعد العدالة الانتقالية ركيزة أساسية لنجاح الانتقال السياسي في سوريا، إذ لا يمكن تحقيق استقرار مستدام على المدى الطويل دون التصدي للانتهاكات السابقة وضمان عدم تكرارها في المستقبل. فهي تهيئ الأرضية الصلبة لنظام سياسي جديد قائم على سيادة القانون والمساءلة والمحاسبة، مما يعزز الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، ويفتح المجال واسعًا لمرحلة جديدة من الازدهار والتقدم قائمة على التعددية والديمقراطية.

كما أنها تسهم بشكل فعال في معالجة الأسباب الجذرية للنزاع وتفكيك منظومات القمع والاستبداد التي سادت لعقود طويلة، مما يمنع انزلاق البلاد نحو دورات جديدة من العنف والصراع.

2- إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية

يقوم الإطار الدستوري والقانوني لهذه الهيئة على أسس متينة ومحددة، حيث يتولى المجلس التشريعي المُشكل حديثًا بعد صدور الإعلان الدستوري مسؤولية وضع قانون تأسيسي شامل ينظم مسار العدالة الانتقالية.

يستند هذا القانون إلى القوانين الوطنية والدولية ذات الصلة، ويتماشى بشكل كامل مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويتضمن فصولًا رئيسة تتناول التعريفات الأساسية والمبادئ العامة، وهيكلية الهيئة التنظيمية، وآليات العدالة الانتقالية، وإصلاح المؤسسات الحكومية والقضائية.

تتألف هيكلية الهيئة من مجلس إدارة رفيع المستوى يضم نخبة من الخبراء القانونيين المرموقين وممثلين عن المجتمع المدني والضحايا، وأمانة عامة تعمل كجهاز تنفيذي للهيئة، تشمل فرقًا إدارية وقانونية ومالية وإعلامية وتقنية متخصصة.

كما تضم الهيئة مكاتب محلية في كافة المحافظات السورية لضمان الوصول إلى جميع الضحايا وتقديم الدعم اللازم لهم، وقسمًا للعلاقات الدولية يتولى التنسيق والتعاون مع الجهات الدولية ذات الصلة، وقسمًا للمراقبة والتقييم لضمان حسن سير العمل وتحقيق الأهداف المنشودة.

وتتمتع الهيئة بصلاحيات واسعة النطاق تشمل استدعاء الشهود للإدلاء بشهاداتهم، وجمع الأدلة والوثائق ذات الصلة، والاطّلاع على الوثائق الرسمية والخاصة، والتحقيق في الانتهاكات المزعومة، والطلب من القضاء إصدار أوامر توقيف بحق المتهمين بارتكاب جرائم، مع إلزام جميع الكيانات الحكومية بالتعاون الكامل مع الهيئة وتقديم الدعم اللازم لها.

لضمان استقلالية الهيئة وحمايتها من التدخلات السياسية، ينصّ القانون التأسيسي بوضوح على استقلالها الكامل عن السلطة التنفيذية. كما تُخصص للهيئة ميزانية مستقلة تُقرّ من قبل السلطة التشريعية، بما يضمن عدم تبعيتها ماليًا للسلطة التنفيذية.

وعلى الرغم من استقلالها عن وزارة العدل، تعمل الهيئة في ظل النظام القضائي السوري، متولية مهام الكشف عن الحقيقة وتوثيق الانتهاكات وتعويض الضحايا، والمساهمة الفعالة مع السلطة القضائية في تشكيل محكمة خاصة لمحاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة.

فيما يتعلق بمعايير اختيار أعضاء الهيئة، تُعتمد الكفاءة والنزاهة أساسًا لاختيار الأعضاء، حيث يجب أن يمتلك الأعضاء خبرة واسعة في مجالات حقوق الإنسان أو القانون، مع سجل نظيف من أي تورط في الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان.

كما يراعى التنوع والتمثيل العادل، بحيث تعكس الهيئة تنوّع المجتمع السوري من حيث الجنس والعرق والدين والخلفية الجغرافية، مع ضرورة استقلال الأعضاء عن الأحزاب السياسية والفصائل المختلفة لضمان الحيادية والموضوعية.

أما آلية التعيين، فتبدأ بتشكيل لجنة توصية مستقلة تضم خبراء مستقلين وممثلين عن القضاء والمجتمع المدني والضحايا، لترشيح الأسماء المقترحة لعضوية الهيئة، ثم انتخاب عشرة منهم لتشكيل مجلس إدارة الهيئة، الذي يتولى بدوره تعيين واختيار فريق العمل وفق معايير الكفاءة والخبرة، مع مراعاة تمثيل الجهات المعنية بالعدالة الانتقالية وعلى رأسها الضحايا.

3- المحاسبة الجنائية

تشكل المحاسبة الجنائية حجر الزاوية في عملية العدالة الانتقالية، إذ تلعب دورًا محوريًا في تكريس مبدأ سيادة القانون، وتقويض سياسة الإفلات من العقاب التي سادت خلال فترة حكم الأسد.

وقد حدّدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان نهجًا واضحًا لتحديد الأولويات في المحاسبة، ويركّز هذا النهج على محاسبة القيادات العليا من الصفَّين الأول والثاني في الجيش وأجهزة الأمن، باعتبارهم المسؤولين الرئيسيين عن وضع الخطط التي أدت إلى وقوع الانتهاكات والإشراف المباشر على تنفيذها.

يمثل هذا النهج إستراتيجية واقعية للتعامل الفعال مع التحديات اللوجيستية والمالية التي تواجه عملية المحاسبة الشاملة، مع ضمان فتح المجال أمام الضحايا لرفع دعاوى قضائية ضد المسؤولين المباشرين عن معاناتهم، بغض النظر عن رتبهم أو مناصبهم.

يتطلب تحقيق المحاسبة الجنائية إطارًا قانونيًا خاصًا ومناسبًا، نظرًا لعدم توافق القوانين المحلية السابقة مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وافتقارها إلى أحكام واضحة لمعالجة الجرائم الكبرى.

لذا، تقترح الرؤية إنشاء لجان قانونية مختصة مؤلفة من خبراء قانونيين محليين ودوليين لصياغة قوانين جنائية جديدة، تتضمن تعديلات جوهرية مثل: إدراج تعريفات واضحة للجرائم الدولية كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إلغاء القوانين التي توفر الحصانة للمسؤولين عن الانتهاكات، تطوير تشريعات تتيح محاكمة الجرائم بأثر رجعي، وضع قوانين تحدد صلاحيات المحاكم المكلفة بالنظر في الانتهاكات الجسيمة، وضمان الحماية القانونية الكاملة للضحايا والشهود.

كما تدعو الرؤية إلى التصديق على نظام روما الأساسي أو قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 12(3)، بما يسمح للمحكمة بالتحقيق في الجرائم المرتكبة منذ شهر آذار/مارس من عام 2011.

تلعب لجان تقصي الحقائق دورًا محوريًا في جمع الأدلة الجنائية اللازمة للمحاسبة، وذلك من خلال الوصول إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية لجمع الملفات والوثائق التي تكشف عن هويات المعتقلين والمختفين قسريًا وضحايا التعذيب.

تشمل هذه المؤسسات الأفرع الأمنية والسجون، ودوائر السجل المدني والمشافي العسكرية والمدنية، والمحاكم والدوائر القضائية، ومراكز رعاية الأيتام.

كما تقوم اللجان بتحليل البيانات والمعلومات المتاحة، وإجراء تحقيقات ميدانية شاملة، وإعداد تقارير مفصلة تتضمن نتائج التحقيقات وتحديد المسؤولين المحتملين عن الانتهاكات، مع تقديم توصيات للإصلاح والمساءلة.

وتعتمد هذه اللجان في عملها على مبادئ الاستقلال والنزاهة والشفافية، والتعاون الوثيق مع منظمات المجتمع المدني، والمشاركة العامة، مع الاستفادة من خبرات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية التي وثّقت الانتهاكات بشكل دقيق.

نظرًا لفقدان القضاء السوري استقلاليته ومحدودية موارده، تقترح الرؤية تشكيل محاكم خاصة مختلطة متخصصة في النظر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

تتميز هذه المحاكم بكونها هيئات قضائية مؤقتة، تجمع بين العناصر الوطنية والدولية، مما يحقق التوازن بين الملكية المحلية للمعايير الدولية. يتم إنشاء هذه المحاكم على الأراضي السورية بواسطة النظام القضائي المحلي بالتعاون الوثيق مع خبراء دوليين متخصصين، وتتكون من قضاة ومحامين سوريين موثوقين وخبراء دوليين مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة.

تعمل هذه المحاكم بشكل مستقل تمامًا عن السلطة التنفيذية، وتخضع للرقابة المدنية من قبل منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، مع العمل ضمن إطار قانوني محلي يحترم المعايير الدولية.

ولملاحقة المسؤولين الفارين خارج البلاد، تقدم الرؤية مجموعة متكاملة من الآليات الدولية الفعالة، منها: طلب التعاون الدولي استنادًا إلى معاهدات دولية كاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد أو اتفاقيات تسليم المجرمين، والاستفادة القصوى من مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي تعتمده بعض الدول ويسمح لها بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية حتى إذا ارتُكبت هذه الجرائم خارج أراضيها، واستخدام الاتفاقيات الثنائية والإقليمية لتسليم المطلوبين.

تواجه هذه الآليات تحديات متعددة، أبرزها احتمالية فرار المتهمين إلى دول أخرى ترفض تسليمهم، وغياب الالتزام القانوني الصريح للدول بالتسليم في حال عدم وجود اتفاقيات مبرمة بينها، وبطء الإجراءات الدولية في بعض الأحيان.

لمواجهة هذه التحديات المحتملة وتقليل آثارها السلبية، توصي الرؤية بتعزيز الضغوط الدولية على الدول التي تأوي المتهمين، والتفاوض على اتفاقيات ثنائية جديدة لتسليم المطلوبين، وممارسة ضغوط اقتصادية ودبلوماسية على الدول المؤوية للمتهمين، وتقديم أدلة قوية تدين المتهمين أمام المحاكم الدولية.

4- الحقيقة والمصالحة

يمثل كشف الحقيقة ركنًا أساسيًا في مسار العدالة الانتقالية، كونه يساهم بشكل فعال في معالجة إرث الانتهاكات وبناء الثقة المجتمعية المفقودة، مما يمهّد الطريق نحو تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة.

توثيق الانتهاكات وتحديد مرتكبيها يكتسب أهمية بالغة في السياق السوري لعدة أسباب جوهرية، أبرزها: الكشف الكامل عن حقيقة الانتهاكات الجسيمة وآثارها المدمرة على المجتمع، وتحديد المسؤولين عن هذه الانتهاكات سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات، ورأب الصدوع المجتمعية العميقة التي خلفها النزاع، وبناء ذاكرة وطنية جامعة وشاملة.

تتطلب هذه العملية جمع شهادات موثقة من جميع الأطراف المعنية، بمن في ذلك المتورطون في ارتكاب الانتهاكات، مما يساعد في فهم البنية التنظيمية للانتهاكات وبناء السرد التاريخي الصحيح وتخفيف الضغط على النظام القضائي، إضافة إلى دعم المصالحة والشفاء المجتمعي.

ولمواجهة التحديات المحتملة في هذا المسار الحساس، تقترح الرؤية تطبيق نظام العفو المشروط للأفراد الذين يعترفون بمسؤوليتهم عن ارتكاب الانتهاكات ويقدمون معلومات قيمة تساعد في كشف الحقيقة، وإتاحة خيارات السرية للشهادات المقدمة، وتنظيم جلسات استماع عامة خاضعة لضوابط صارمة، واعتماد نهج يركز على الضحايا واحتياجاتهم.

بعد سقوط النظام السابق وفتح مراكز الاحتجاز السرية، تقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن أكثر من 160.123 شخصًا لا يزالون قيد الاختفاء القسري على يد النظام السابق، إضافة إلى ما لا يقل عن  16.898 مختفيًا قسريًا على يد بقية أطراف النزاع.

يشكل الكشف عن مصير هؤلاء المفقودين ركيزة أساسية في مسار كشف الحقيقة، ويستلزم تشكيل لجان متخصصة تضم نخبة من الخبراء في مجالات التحقيقات الجنائية والطب الشرعي وعلماء الجينات والأنثروبولوجيا، إضافة إلى ممثلين عن المنظمات الدولية المتخصصة مثل المؤسسة المستقلة للمفقودين (IIMP) واللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP).

تعمل هذه اللجان بتنسيق وتعاون وثيقين مع السلطات الوطنية والمنظمات الحقوقية والهيئات القضائية وروابط الضحايا وذوي المختفين قسريًا، مما يضمن شمولية العملية وفاعليتها.

تشكل المقابر الجماعية المهجورة نقطة انطلاق رئيسة لعمل لجان البحث عن المفقودين، إذ تم الكشف بعد سقوط النظام عن عشرات المواقع التي تحوي رفات المختفين قسريًا الذين قتلوا تحت التعذيب الوحشي.

تتضمن خطوات التعامل مع هذه المواقع: حمايتها فورًا باعتبارها مسارح جريمة، وإجراء البحث الميداني المنهجي وفق بروتوكولات دولية معتمدة، وجمع الأدلة الجنائية اللازمة لدعم التحقيقات، وتوثيق البيانات بدقة، وإجراء تحقيقات شاملة تستند إلى المعايير الدولية، وتحديد هويات الضحايا باستخدام أحدث التقنيات المتطورة كتحليل الحمض النووي، والتواصل المستمر مع ذوي الضحايا وإعلامهم بآخر المستجدات، ثم تسليمهم الرفات لدفنه بطريقة لائقة تحترم كرامة الموتى.

تلعب لجان الحقيقة دورًا محوريًا في تعزيز المصالحة المجتمعية الحقيقية، إذ تتجاوز المحاسبة الجنائية لتشمل وضع آليات محلية لمعالجة المظالم التاريخية وبناء الثقة بين أفراد المجتمع الواحد. تشرف هذه اللجان على تشكيل مجالس عرفية ولجان مصالحة في مختلف المحافظات السورية، تضم وجهاء المجتمع والشخصيات القيادية المؤثرة ورجال الدين، وتعمل على تسوية النزاعات المحلية، وإعادة الحقوق إلى أصحابها، وتعزيز المصالحة المجتمعية، وضمان الاعتذار العلني والاعتراف بالمسؤولية عن الأفعال الخاطئة، ونشر ثقافة السلم الأهلي والتسامح، وإعادة دمج المتضررين في المجتمع.

ويمكن الاستفادة من التجارب الناجحة للمجتمعات العشائرية في سوريا التي طورت آليات فعالة للصلح تتضمن المسامحة ودفع الدية وتقديم الاعترافات العلنية.

تشكل هذه المحاسبة المحلية المتكاملة نهجًا رديفًا للمحاسبة الجنائية، يشجع الجناة الأقل تورطًا على الاعتراف بأخطائهم والمشاركة الفعالة في إصلاح الأضرار التي تسببوا بها، مما يعزز العدالة التصالحية ويساهم في بناء آليات مستدامة لحل النزاعات ومنع دورات جديدة من العنف الانتقامي.

برامج جبر الضرر والتعويض

تُشكل برامج جبر الضرر والتعويض عنصرًا حيويًا في مسار العدالة الانتقالية السورية، وذلك من أجل معالجة الأضرار الهائلة التي خلفها النزاع والتي وثقتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بما في ذلك مقتل أكثر من 234 ألف مدني بريء، واختفاء نحو 177 ألف شخص قسريًا، ووفاة أكثر من 45 ألف شخص تحت التعذيب الوحشي، وتشريد نحو 13.8 مليون سوري.

تتنوع آليات التعويض المادي للضحايا وذويهم لتشمل: منح مادية مباشرة تُصرف دفعة واحدة أو على شكل رواتب شهرية طويلة الأجل للأرامل والأيتام، وتقديم خدمات تفضيلية لهم كالرعاية الصحية الشاملة والتعليم المجاني، وإعادة حقوق الملكية من خلال لجان محلية متخصصة في حل النزاعات على الممتلكات، وتمويل مشاريع الإسكان عبر منح أو قروض بدون فوائد، ودعم إعادة التأهيل الاقتصادي للأفراد المتضررين، وتقديم برامج تعويضات جماعية للمجتمعات المتضررة، وتعويضات مالية لخسائر الدخل التي تكبدوها، وتأهيل البنى التحتية المدمرة في المناطق المتضررة.

إلى جانب التعويضات المادية، تُولي الرؤية اهتمامًا كبيرًا لبرامج جبر الضرر المعنوي وتخليد ذكرى الضحايا، والتي تساهم بدور كبير في تضميد جراح الضحايا والاعتراف الصريح بمعاناتهم واستعادة كرامتهم الإنسانية.

تشمل هذه البرامج: إعادة تأهيل الضحايا نفسيًا واجتماعيًا، وتقديم الدعم القانوني اللازم لمساعدتهم في المطالبة بحقوقهم المشروعة، وإنشاء نصب تذكارية كبرى في المناطق الأكثر تضررًا من النزاع، ونصب محلية مصغرة لتخليد ذكرى الضحايا في كل مدينة وقرية، وتخصيص أيام تذكارية وطنية مصحوبة بفعاليات عامة ومعارض فنية وثقافية، وإنشاء متاحف ومراكز توثيق لعرض شهادات الضحايا وصورهم، وتطوير أرشيفات رقمية شاملة، وإطلاق أسماء الضحايا على الأماكن العامة، وتنظيم فعاليات ثقافية تخلد ذكراهم، وتشجيع الاعتذارات العلنية والاعتراف بالتضحيات الجسام التي قدمها الضحايا، وإدماج إرث الثورة السورية في المناهج التعليمية، وتنظيم عمليات شاملة لإحياء الذكرى بمشاركة فاعلة من أسر الضحايا ومنظمات المجتمع المدني.

لتنفيذ هذه البرامج المتنوعة، تقترح الرؤية تشكيل لجان متخصصة للتعويض وجبر الضرر، تضم ممثلين حكوميين وقضاة وحقوقيين، وممثلين عن المجتمع المدني، وممثلين عن الضحايا وذويهم، ومستشارين دوليين متخصصين؛ وذلك لضمان تنفيذ العملية وفق المعايير الدولية المعتمدة.

تتولى هذه اللجان تحديد الفئات المستهدفة بالتعويضات وأنواع الأضرار القابلة للتعويض، ووضع آليات عادلة لتقدير حجم الضرر وتحديد التعويض المناسب لكل حالة، وتصميم هيكلية متكاملة للتعويضات تشمل التعويضات الفردية والجماعية والخدماتية، وتحديد كيفية توزيع التعويضات ضمن إطار زمني محدد وواضح.

ولتحديد قيمة التعويضات بشكل عادل ومنصف، يجب التعاون الوثيق مع المحكمة الجنائية الخاصة والاستفادة الكاملة من توصيات لجان الحقيقة، مع أهمية التشاور المستمر مع المجتمعات المتضررة لضمان تلبية احتياجاتهم، وضمان احترام كرامة الناجين، وفرض آليات رقابة صارمة تضمن نزاهة وشفافية العملية برمتها.

تواجه برامج التعويض تحديات جسيمة، أبرزها نقص الموارد المالية الكافية في ظل الدمار الاقتصادي الشامل الذي خلفه النظام السابق. ولمواجهة هذا التحدي الكبير، تقترح الرؤية عدة إستراتيجيات مبتكرة: إقامة شراكات دولية قوية مع المؤسسات الدولية الكبرى مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، واعتماد آليات تمويل مبتكرة كإنشاء صندوق ائتمان خاص، والاستفادة من الأصول والأموال المصادرة من مرتكبي الانتهاكات، والحجز على أموال رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق، والربط الفعال بين التعويض ومشاريع إعادة الإعمار، وتشجيع المساهمات المحلية والدولية.

كما تواجه البرامج تحديات أخرى كالتفاوت المحتمل في توزيع التعويضات، والتعقيدات القانونية والإدارية، والخلافات المجتمعية. ولمواجهة هذه التحديات، توصي الرؤية بوضع معايير واضحة وعادلة للتعويضات، وإجراء مسح شامل للأضرار، وتعزيز الشفافية وإشراك الضحايا في عملية صنع القرار، وتنويع خيارات التعويض المتاحة، وتطبيق نهج تدريجي ومرن، وإنشاء هيئات قانونية متخصصة، وتنفيذ برامج حوار مجتمعي لتعزيز قبول عملية التعويض.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة